عندما فاز حزب العدالة والتنمية بحكم تركيا، رأى فيه المسلمون صوتاً معتدلاً في أوروبا، وأنه سيعمل على إظهار الوجه الوسطي للإسلام بعدما شوهته الحركات الإرهابية التي اتخذت من الدين الحنيف ستاراً لها، ومارست أعمالاً عدوانية في العالم.
أيضا يومها تصور الجميع أن هذا الحزب سيعيد إلى تركيا هويتها الإسلامية، بعدما طمسها مصطفى كمال أتاتورك، خصوصا حين فرضت الديكتاتورية العلمانية، وهو ما أدى في العام 1960 إلى إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس حين أعاد الأذان باللغة العربية وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، لكن هذا الزخم المعنوي العربي والإسلامي زاد قوة مع التعديلات الدستورية التي أجراها الحزب، وتثبيت الهوية الإسلامية للدولة.
مع هذا التطور أقبل العرب على الاستثمار فيها، حيث وصلت الأموال الخليجية الموظفة في الاقتصاد التركي إلى نحو 100 مليار دولار، وتحولت محجة سياحية للسعوديين والكويتيين والاماراتيين، والعرب عموما.
في غمرة التغيرات التي بدأت تشهدها بلاد الأناضول، اندلعت رياح “الربيع العربي”، وبرز فيها الاخوان المسلمون بقوة، فكان أن أحيا “العدالة والتنمية” فكرة الخلافة العثمانية، وقد عبر عنها بوضوح تام وزير الخارجية السابق، القيادي في الحزب، حينذاك، أحمد داود أوغلو، بقوله: “نعم نحن العثمانيون الجدد”، ويومها عمل شياطين “الاخوان” على تنمية هذه الفكرة في أذهان السياسيين الأتراك، وتصويرهم لاحقاً رجب طيب أردوغان الخليفة الإسلامي المنتظر، وبلاده الدولة التي ستستعيد الخلافة.
وفي ظل ذلك تحول المشروع السياسي لنظام أنقرة إلى التوسع والهيمنة، بدأ تدخلاته في شؤون الدول العربية، انطلاقاً من سورية والعراق، ولاحقاً ليبيا، وقبلها تونس ومصر بعد سطو جماعة “الاخوان” على الحكم بترتيب من واشنطن، وتنصيبهم محمد مرسي حاكماً صورياً، فيما كان المحرك الأساسي للدولة مكتب الإرشاد، وكان واضحاً
سعي نظام “الاخوان” إلى جعل هذا البلد العظيم أسيراً للنظام التوسعي العثماني، وتوظيفه لخدمة مشروع الحاكم بأمره الجديد، وهو ما دفع بالشعب المصري إلى الثورة بعد عام واحد على حكم العصابة، فكانت ردة فعل أنقرة إثارة العداء لمصر، وكل من ساندها، لا سيما دول الخليج، وخصوصاً السعودية.
سياسات أردوغان الخاطئة مع الدول العربية أدت إلى انكماش الاقتصاد التركي فارتفع عجز التجارة الخارجية بنسبة 102.7 في المئة، بينما قفزت ديونها إلى نحو 550 مليار دولار، وتدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي من 2.5 إلى ثماني ليرات.
رغم ذلك لم يتدارك قادة أنقرة طوال عشر سنوات الخطأ، بل أمعنوا في العداء وتوهموا قدرتهم، عبر أبواق إعلامية، مصرية وخليجية موجودة على أراضيهم، إخضاع دول الخليج ومصر، كالتلويح بما يزعمه “الاخوان” عن “ميدان رابعة العدوية” والشتم والتدليس اليومي، من خلال شاشات 13 قناة تلفزيونية تبث من اسطنبول، و300 صحيفة تصدر في عموم تركيا، وأن ذلك سيؤدي إلى إضعاف حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، المستمر بقوة وتأييد من غالبية المصريين منذ ثماني سنوات، أو أن إثارة قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي يمكن أن تهز السعودية، لكن على العكس فقد أدت تلك السياسة إلى خسارة تركيا شراكاتها مع هذه الدول، وأهمها وقف خطة التكامل الاقتصادي المصري – التركي.
في هذا الشأن تحديداً، ثمة الكثير من الحقائق التي لم تأخذ بها أنقرة، خصوصاً الاتصال الهاتفي الذي أجراه العاهل السعودي بأردوغان الساعة 12 ليلاً، بعد اكتشاف الرياض حقيقة جريمة قتل خاشقجي التي ارتكبها بعض المسؤولين من دون علم القيادة، وقيل إن الملك سلمان قال حينها للرئيس التركي إن ما جرى لم يكن بعلمي أو علم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وسينال المجرمون عقابهم، فنحن لم نأمر بالمس بالرجل الذي كنا نتمنى أن يكون بين أهله في السعودية.
اليوم ثمة سؤال يدور في خلد غالبية الخليجيين: ماذا استفادت تركيا من المغامرات الفاشلة التي جربتها خلال العقد الماضي، وهل خدم ذلك اقتصادها المترنح، أم فاقم الأزمة المعيشية فيها؟
في ظل التطورات الجديدة، لعل في تركيا رجل ذكي يستطيع إدراك العبر التاريخية، وينظر بعمق إلى المعاني التي حملتها رسالة الخليفة هارون الرشيد إلى نقفور ملك الروم حين أراد الأخير التطاول على الخليفة العربي برسالته الوقحة المشهورة فكان رد الخليفة على ظهر الرسالة نفسها “بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام”، وهل سيتذكر قادة حزب العدالة والتنمية أن العثمانيين جاؤوا من آسيا الوسطى هرباً من المغول، وتوسعوا حتى اصبحوا سلطنة كبيرة، لكن نجمها أفل حين أخطأ السلاطين في الحسابات، وخصوصا بعلاقتهم مع العرب والجيران والمسلمين؟